الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: مجموع فتاوى ابن تيمية **
فأجاب: وأما جعل المصحف عند القبور،وإيقاد القناديل هناك، فهذا مكروه منهي عنه، ولو كان قد جعل للقراءة فيه هنالك، فكيف إذا لم يقرأ فيه؟ فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لعن اللّه زوارات القبور، والمتخذين عليها المساجد والسرج). فإيقاد السرج من قنديل / وغيره على القبور منهي عنه، مطلقاً؛ لأنه أحد الفعلين اللذين لعن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم من يفعلهما. كما قال: (لا يخرج الرجلان يضربان الغائط، كاشفين عن عوراتهما يتحدثان، فإن اللّه يمقت على ذلك). رواه أبو داود وغيره. ومعلوم أنه ينهي عن كشف العورة وحده، وعن التحدث وحده، وكذلك قوله تعالى: وذلك لأن ترتيب الذم على المجموع، يقتضي أن كل واحد له تأثير في الذم، ولو كان بعضها مباحا، لم يكن له تأثير في الذم. والحرام لا يتوكد بانضمام المباح المخصص إليه. والأئمة قد تنازعوا في القراءة عند القبر: فكرهها أبو حنيفة، ومالك، وأحمد في أكثر الروايات، ورخص فيها في الرواية الأخري عنه: هو وطائفة من أصحاب أبي حنيفة، وغيرهم. وأما جعل المصاحف عند القبور لمن يقصد قراءة القرآن هناك،/ وتلاوته، فبدعة منكرة، لم يفعلها أحد من السلف. بل هي تدخل في معني اتخاذ المساجد على القبور. وقد استفاضت السنن عن النبي صلى الله عليه وسلم في النهي عن ذلك، حتى قال: (لعن اللّه إليهود والنصاري، اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد) ـ يحذر ما صنعوا ـ قالت عائشة: ولولا ذلك، لأبرز قبره، ولكن كره أن يتخذ مسجداً. وقال: (إن من كان قبلكم كانوا يتخذون القبور مساجد، ألا فلا تتخذوا القبور مساجد، فإني أنهاكم عن ذلك). ولا نزاع بين السلف والأئمة في النهي عن اتخاذ القبور مساجد. ومعلوم أن المساجد بنيت للصلاة والذكر، وقراءة القرآن، فإذا اتخذ القبر لبعض ذلك، كان داخلا في النهي، فإذا كان هذا مع كونهم يقرؤون فيها، فكيف إذا جعلت المصاحف بحيث لا يقرأ فيها، ولا ينتفع بها لا حي ولا ميت؟ فإن هذا لا نزاع في النهي عنه. ولو كان الميت ينتفع بمثل ذلك لفعله السلف، فإنهم كانوا أعلم بما يحبه اللّه ويرضاه، وأسرع إلى فعل ذلك، وتحريه.
/ فأجاب: الحمد للّه، لا ينبش الميت من قبره، إلا لحاجة. مثل أن يكون المدفن الأول فيه ما يؤذي الميت، فينقل إلى غيره، كما نقل بعض الصحابة في مثل ذلك. وأرواح الأحياء إذا قبضت، تجتمع بأرواح الموتي، ويسأل الموتي القادم عليهم عن حال الأحياء فيقولون: ما فعل فلان؟ فيقولون: فلان تزوج. فلان على حال حسنة. ويقولون: ما فعل فلان ؟ فيقول: ألم يأتكم؟ فيقولون: لا.ذُهب به إلى أمه الهاوية. وأما أرواح الموتي فتجتمع، الأعلى ينزل إلى الأدنى، والأدنى لا يصعد إلى الأعلى. والروح تشرف على القبر، وتعاد إلى اللحد أحياناً. كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (ما من رجل يمر بقبر الرجل / كان يعرفه في الدنيـا، فيسلم عليه، إلا رد اللّه عليه روحه، حتى يرد عليه السلام). والميت قد يعرف من يزوره، ولهذا كانت السنة أن يقال: السلام عليكم، أهل دار قوم مؤمنين، وإنا إن شاء اللّه بكـم لاحقون. ويرحم اللّه المستقدمين منا ومنكـم. والمستأخرين). واللّه أعلم.
فأجاب: لا ينبش الميت لأجل ما ذكر. واللّه أعلم.
فأجاب: الحمد للّه، أما الأجساد، فإنها لا تنقل من القبور، لكن نعلم أن بعض من يكون ظاهره الإسلام، ويكون منافقاً، إما يهودياً، أو نصرانياً، أو مرتداً معطلا. فمن كان كذلك، فإنه يكون يوم القيامة مع نظرائه. كما قال تعالى: وقد يكون في بعض من مات ـ وظاهره كافراً ـ أن يكون آمن باللّه، قبل أن يغرغر، ولم يكن عنده مؤمن، وكتم أهله ذلك، إما لأجل ميراث، أو لغير ذلك، فيكون مع المؤمنين، وإن كان مقبوراً مع الكفار. وأما الأثر في نقل الملائكة، فما سمعت في ذلك أثراً. / فأجاب: الحمد للّه رب العالمين، ليس في الآية، ولا في الحديث أن الميت لا ينتفع بدعاء الخلق له، وبما يعمل عنه من البر، بل أئمة الإسلام متفقون على انتفاع الميت بذلك، وهذا مما يعلم بالاضطرار من دين الإسلام، وقد دل عليه الكتاب والسنة والإجماع، فمن خالف ذلك كان من أهل البدع. قال اللّه تعالى: وقال تعالى: ومن السنن المتواترة التي من جحدها كفر: صلاة المسلمين على الميت، ودعاؤهم له في الصلاة. وكذلك شفاعة النبي صلى الله عليه وسلم يوم القيامة، فإن السنن فيها متواترة، بل لم ينكر شفاعته لأهل الكبائر إلا أهل البدع، بل قد ثبت أنه يشفع لأهل الكبائر، وشفاعته دعاؤه، وسؤاله اللّه تبارك وتعالى. فهذا وأمثاله من القرآن، والسنن المتواترة، وجاحد مثل ذلك كافر بعد قيام الحجة عليه. والأحاديث الصحيحة في هذا الباب كثيرة، مثل ما في الصحاح عن ابن عباس ـ رضي اللّه عنهما ـ: أن رجلا قال للنبي صلى الله عليه وسلم: إن أمي توفيت، أفينفعها أن أتصدق عنها؟ قال: (نعم) / قال: إن لي مخرفا ـ أي بستاناً ـ أشهدكم أني تصدقت به عنها. وفي الصحيحين عن عائشة ـ رضي اللّه عنها ـ: أن رجلا قال للنبي صلى الله عليه وسلم: إن أمي افتلتت نفسها، ولم توص، وأظنها لو تكلمت تصدقت، فهل لها أجر إن تصدقت عنها ؟ قال: (نعم). وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة رضي اللّه عنه: أن رجلا قال للنبي صلى الله عليه وسلم: إن أبي مات ولم يوص، أينفعه إن تصدقت عنه ؟ قال: (نعم). وعن عبد اللّه بن عمرو بن العاص: إن العاص بن وائل نذر في الجاهلية أن يذبح مائة بدنة، وأن هشام بن العاص نحر حصته خمسين، وأن عمراً سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك، فقال: (أما أبوك فلو أقر بالتوحيد فصمت عنه، أو تصدقت عنه، نفعه ذلك). وفي سنن الدارقطني: أن رجلا سأل النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يارسول اللّه، إن لي أبوان، وكنت أبرهما حال حياتهما. فكيف بالبر بعد موتهما؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن من بعد البر أن تصلي لهما مع صلاتك، وأن تصوم لهما مع صيامك، وأن تصدق لهما مع صدقتك). وقد ذكر مسلم في أول كتابه عن أبي إسحاق الطالقاني،قال:/قلت لعبد الله بن المبارك: يا أبا عبد الرحمن، الحديث الذي جاء: (إن البر بعد البر، أن تصلي لأبويك مع صلاتك، وتصوم لهما مع صيامك؟) قال عبد الله: يا أبا إسحاق، عمن هذا؟ قلت له: هذا من حديث شهاب بن حراس، قال: ثقة. قلت: عمن؟ قال عن الحجاج بن دينار. فقال: ثقة. عمن؟ قلت: عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: يا أبا إسحاق، إن بين الحجاج وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم مفــاوز تقطع فيهـا أعنـاق المطي، ولكن ليس في الصدقـة اختلاف. والأمر كما ذكره عبد الله ابن المبارك. فإن هذا الحديث مرسل. والأئمة اتفقوا على أن الصدقة تصل إلى الميت، وكذلك العبادات المالية، كالعتق. وإنما تنازعوا في العبادات البدنية، كالصلاة، والصيام، والقراءة، ومع هذا ففي الصحيحين عن عائشة ـ رضي الله عنها ـ عـن النبي صلى الله عليه وسلم قـال: (مـن مـات وعليه صيام، صام عنه وليه)، وفي الصحيحين عن ابن عباس ـ رضي الله عنه ـ: أن امرأة قالت: يا رسول الله، إن أمي ماتت، وعليها صيام نذر. قال: (أرأيت إن كان على أمك دين فقضيتيه، أكان يؤدي ذلك عنها؟) قالت: نعم، قال: (فصومي عن أمك). /وفي الصحيح عنه: أن امرأة جاءت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: إن أختي ماتت، وعليها صوم شهرين متتابعين، قال: أرأيت لو كان على أختك دين أكنت تقضيه؟ قالت: نعم.قال: (فحق الله أحق). وفي صحيح مسلم عن عبد الله بن بريدة بن حصيب عن أبيه: أن امرأة أتت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: إن أمي ماتت، وعليها صوم شهر، أفيجزي عنها أن أصوم عنها؟ قال: (نعم). فهذه الأحاديث الصحيحة صريحة في أنه يصام عن الميت ما نذر، وأنه شبه ذلك بقضاء الدين. والأئمة تنازعوا في ذلك، ولم يخالف هذه الأحاديث الصحيحة الصريحة من بلغته، وإنما خالفها من لم تبلغه، وقد تقدم حديث عمرو بأنهم إذا صاموا عن المسلم نفعه. وأما الحج فيجزي عند عامتهم، ليس فيه إلا اختلاف شاذ. وفي الصحيحين عن ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ: أن امرأة من جهينة جاءت إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: إن أمي نذرت أن تحج، فلم تحج حتى ماتت، أفأحج عنها؟ فقال: (حجي عنها، أرأيت لو كان على أمك دين، أكنت قاضيته عنها؟ اقضوا الله، فالله أحق /بالوفـاء) وفي روايـة للبخـاري: إن أختي نـذرت أن تحـج. وفي صحـيح مسلم عن بريدة: أن امرأة قالت: يا رسول الله، إن أمي ماتت، ولم تحج، أفيجزي ـ أو يقضي ـ أن أحج عنها؟ قال: (نعم). ففي هـذه الأحـاديث الصحيحـة: أنـه أمـر بحـج الفرض عن الميت وبحج النذر. كما أمـر بالصـيام. وأن المأمـور تـارة يكون ولدًا، وتارة يكون أخـًا، وشبه النبي صلى الله عليه وسلم ذلك بالدين، يكـون على الميـت. والدين يصح قضاؤه من كل أحد، فدل على أنه يجوز أن يفعل ذلك من كل أحد، لا يختص ذلك بالولد. كما جاء مصرحًا به في الأخ. فهذا الذي ثبت بالكتاب والسنة والإجماع علم مفصل مبين. فعلم أن ذلك لا ينافي قوله: أمـا الحـديث: فإنه قال: (انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو لـه). فذكـر الولـد، ودعاؤه له خاصين؛ لأن الولد من كسبه، كما قال: وأما الآية: فللناس عنها أجوبة متعددة. كما قيل: إنها تختص بشرع من قبلنا. وقيل: إنها مخصوصة. وقيل: إنها منسوخة. وقيل: إنها تنال السعي مباشرة وسببا. والإيمان من سعيه الذي تسبب فيه. ولا يحتاج إلى شيء من ذلك، بل ظاهر الآية حق لا يخالف بقية النصوص. فإنه قال: فمن صلى على جنازة، فله قيراط، فيثاب المصلي على سعيه الذي هو صلاته، والميت ـ أيضًا ـ يرحم بصلاة الحي عليه، كما قال: (ما من / مسلم يموت فيصلي عليه أمة من المسلمين يبلغون أن يكونوا مائة). ويروي: (أربعين)، ويروي (ثلاثة صفوف، ويشفعون فيه، إلا شفعوا فيه). أو قال: (إلا غفر له). فالله ـ تعالى ـ يثيب هذا الساعي على سعيه الذي هو له، ويرحم ذلك الميت بسعي هذا الحي لدعائه له، وصدقته عنه، وصيامه عنه، وحجه عنه. وقد ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (ما من رجل يدعو لأخيه دعوة إلا وكل الله به ملكًا، كلما دعا لأخيه دعوة قال الملك الموكل به: آمين، ولك بمثله). فهذا من السعي الذي ينفع به المؤمن أخاه، يثيب الله هذا، ويرحم هذا.
ما تقول السادة الفقهاء وأئمة الدين ـ وفقهم الله تعالى لمرضاته ـ في القراءة للميت؟ هل تصل إليه أم لا؟ والأجرة على ذلك، وطعام أهل الميت لمن هو مستحق، وغير ذلك، والقراءة على القبر والصدقة عن الميت، أيهما المشروع الذي أمرنا به؟ والمسجد الذي في وسط القبور، والصلاة فيه، وما يعلم هل بني قبل القبور أو القبور قبله وله ثلاث: رزق، وأربعمائة اصددمون قديمة من زمان الروم، ما هو له، بل للمسجد، وفيه الخطبة كل جمعة، والصلاة ـ أيضًا ـ في بعض الأوقات، وله كل سنة موسم يأتي إليه رجال كثير ونساء يأتون بالنذور معهم، فهل يجوز للإمام أن يتناول من ذلك شيئًا لمصالح المسجد الذي في البلد؟ أفتونا ـ يرحمكم الله ـ مأجورين. فأجاب: الحمد لله رب العالمين، أما الصدقة عن الميت فإنه ينتفع بها باتفاق المسلمين، وقد وردت بذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم أحاديث صحيحة. مثل قول سعد: يا رسول الله، إن أمي افتلتت نفسها،وأراها لو تكلمت تصدقت،فهل ينفعها أن أتصدق عنها؟ / فقال: (نعم). وكذلك ينفعه الحج عنه، والأضحية عنه، والعتق عنه، والدعاء والاستغفار له بلا نزاع بين الأئمة. وأما الصيام عنه وصلاة التطوع عنه، وقراءة القرآن عنه، فهذا فيه قولان للعلماء: أحدهما: ينتفع به، وهو مذهب أحمد، وأبي حنيفة، وغيرهما. وبعض أصحاب الشافعي وغيرهم. والثاني: لا تصل إليه، وهو المشهور في مذهب مالك والشافعي. وأما الاستئجار لنفس القراءة، والإهداء، فلا يصح ذلك. فإن العلماء إنما تنازعوا في جواز أخذ الأجرة على تعليم القرآن، والأذان، والإمامة، والحج عن الغير؛ لأن المستأجر يستوفي المنفعة. فقيل: يصح لذلك، كما هو المشهور من مذهب مالك، والشافعي. وقيل: لا يجوز؛ لأن هذه الأعمال يختص فاعلها أن يكون من أهل القربة، فإنها إنما تصح من المسلم دون الكافر، فلا يجوز إيقاعها إلا على وجه التقرب إلى الله ـ تعالى ـ وإذا فعلت بعروض، لم يكن فيها أجر بالاتفاق؛ لأن الله إنما يقبل من العمل ما أريد به وجهه، لا ما فعل لأجل عروض الدنيا. /وقيل: يجوز أخذ الأجرة عليها للفقير، دون الغني. وهو القول الثالث في مذهب أحمد، كما أذن الله لولي اليتيم أن يأكل مع الفقر ويستغنى مع الغني. وهذا القول أقوي من غيره على هذا. فإذا فعلها الفقير لله ـ وإنما أخذ الأجرة لحاجته إلى ذلك، وليستعين بذلك على طاعة الله ـ فالله يأجره على نيته، فيكون قد أكل طيباً، وعمل صالحاً. وأما إذا كان لا يقرأ القرآن إلا لأجل العروض، فلا ثواب لهم على ذلك. وإذا لم يكن في ذلك ثواب، فلا يصل إلى الميت شيء؛ لأنه إنما يصل إلى الميت ثواب العمل، لا نفس العمل. فإذا تصدق بهذا المال على من يستحقه، وصل ذلك إلى الميت. وإن قصد بذلك من يستعين على قراءة القرآن وتعليمه، كان أفضل وأحسن. فإن إعانة المسلمين بأنفسهم وأموالهم على تعلم القرآن وقراءته وتعليمه من أفضل الأعمال. وأما صنعة أهل الميت طعاما يدعون الناس إليه، فهذا غير مشروع وإنما هو بدعة، بل قد قال جرير بن عبد الله: كنا نعد الاجتماع إلى أهل الميت، وصنعتهم الطعام للناس من النياحة. وإنما المستحب إذا مات الميت أن يُصْنَع لأهله طعام. كما قال / النبي صلى الله عليه وسلم ـ لما جاء نعي جعفر بن أبي طالب ـ: (اصنعوا لآل جعفر طعاماً، فقد أتاهم ما يشغلهم). وأما القراءة الدائمة على القبور، فلم تكن معروفة عند السلف. وقد تنازع الناس في القراءة على القبر، فكرهها أبو حنيفة ومالك، وأحمد في أكثر الروايات عنه، ورخص فيها في الرواية المتأخرة، لما بلغه أن عبد الله بن عمر أوصى أن يقرأ عند دفنه بفواتح البقرة، وخواتمها. وقد نقل عن بعض الأنصار أنه أوصى عند قبره بالبقرة، وهذا إنما كان عند الدفن، فأما بعد ذلك فلم ينقل عنهم شيء من ذلك. ولهذا فرق في القول الثالث بين القراءة حين الدفن، والقراءة الراتبة بعد الدفن، فإن هذا بدعة لا يعرف لها أصل. ومن قال: إن الميت ينتفع بسماع القرآن، ويؤجر على ذلك، فقد غلط؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له). فالميت بعد الموت لا يثاب على سماع، ولا غيره. وإن كان الميت يسمع قرع نعالهم، ويسمع سلام الذي يسلم عليه، ويسمع غير ذلك، لكن لم يبق له عمل غير ما استثنى. /وأما بناء المساجد على القبور، وتسمى [مشاهد]، فهذا غير سائغ، بل جميع الأمة ينهـون عـن ذلك، لما ثبت في الصحيحين عـن النبي صلى الله عليه وسلم أنـه قـال: (لعـن اللّه إليهـود والنصاري، اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد) يحذر ما فعلوا.قالت عائشة: ولولا ذلك لأبرز قبره، ولكن كره أن يتخذ مسجداً. وفي الصحيح أيضاً عنه أنه قال: (إن من كان قبلكم كانوا يتخذون القبور مساجد، ألا فلا تتخذوا القبور مساجد، فإني أنهاكم عن ذلك). وفي السنن عنه أنه قال: (لعن الله زوارات القبور، والمتخذين عليها المساجد والسرج). وقد اتفق أئمة المسلمين على أن الصلاة في المشاهد ليس مأموراً بها، لا أمر إيجاب، ولا أمر استح باب. ولا في الصلاة في المشاهد التي على القبور ونحوها فضيلة على سائر البقاع، فضلا عن المساجد، باتفاق أئمة المسلمين، فمن اعتقد أن الصلاة عندها فيها فضل على الصلاة على غيرها، أو أنها أفضل من الصلاة في بعض المساجد، فقد فارق جماعة المسلمين، ومرق من الدين، بل الذي عليه الأمة أن الصلاة فيها منهي عنه نهي تحريم، وإن كانوا متنازعين في الصلاة في المقبرة: هل هي محرمة أو مكروهة أو مباحة أو يفرق بين المنبوشة والقديمة؟ فذلك لأجل تعليل النهي بالنجاسة لاختلاط التراب بصديد الموتي. /وأما هذا، فإنه نهي عن ذلك لما فيه من التشبه بالمشركين، وأن ذلك أصل عبادة الأصنام. قال تعالى: وأما الكفارة فهي على قولين: فمذهب أحمد وغيره عليه كفارة يمين؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (كفارة النذر كفارة اليمين) رواه مسلم. وفي السنن عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: (من نذر أن يطيع الله فليطعه، ومن نذر أن يعصي الله فلا يعصه). ومذهب مالك والشافعي وغيرهما لا شيء عليه. لكن إن تصدق بالنذر / في المشاهد على من يستحق ذلك من فقراء المسلمين، الذين يستعينون بذلك على طاعة الله ورسوله، فقد أحسن في ذلك، وأجره على الله. ولا يجوز لأحد ـ باتفاق المسلمين ـ أن ينقل صلاة المسلمين، وخطبهم من مسجد يجتمعون فيه، إلى مشهد من مشاهد القبور، ونحوها. بل ذلك من أعظم الضلالات والمنكرات، حيث تركوا ما أمر الله به ورسوله، وفعلوا ما نهي الله عنه ورسوله. وتركوا السنة، وفعلوا البدعة. تركوا طاعة الله ورسوله، وارتكبوا معصية الله ورسوله، بل يجب إعادة الجمعة والجماعة إلى المسجد الذي هو بيت من بيوت الله. وأما القبور التي في المشاهد وغيرها، فالسنة لمن زارها أن يسلم على الميت، ويدعو له بمنزلة الصلاة على الجنائز، كما كان النبي صلى الله عليه وسلم يعلم أصحابه أن يقولوا إذا زاروا القبور: (السلام عليكم أهل الديار من المؤمنين، والمسلمين، وإنا إن شاء الله بكم عن قريب لاحقون، ويرحم الله المستقدمين منا ومنكم، والمستأخرين،/ نسأل الله لنا ولكم العافية، اللهم لا تحرمنا أجرهم، ولا تفتنا بعدهم واغفر لنا ولهم). وأما التمسح بالقبر، أو الصلاة عنده، أو قصده لأجل الدعاء عنده، معتقداً أن الدعاء هناك أفضل من الدعاء في غيره، أو النذر له ونحو ذلك، فليس هذا من دين المسلمين، بل هو مما أحدث من البدع القبيحة، التي هي من شعب الشرك. والله أعلم وأحكم.
|